ليس من الغريب أن نجد في سير القديسين أن رجلاً وامرأته يحوزان الأكاليل السماوية التي سبق أن استقرت رمزياً على رأسيهما عند زواجهما. إذ من المؤكد أن الزواج ليس مانعاً لبلوغ القداسة، لكن الظروف الخارجية للحياة الزوجية وتربية الأولاد ودعم العائلة، كلها أمور تجعل الزوجين، في معظم الحالات، أقل استعداداً للالتزام بالحياة الروحية. وبما أنه غالباً ما تبقى حياة الأزواج القديسين مستترة في الله، لذا، من المشجِّع أن نقرأ عن زوجين يشتعلان بحب المسيح وكنيسته. وهذه إحدى القصص المؤثّرة الملخّصة عن الشهيد في الكهنة الياس وخوريته[1] افجانيا (شتفروخين) التي شاركته كلاً من أفراحه وأحزانه.
زواجهما
كانت الخورية أفجانيا فتاة ورعة، وكانت رغبتها أن تصبح راهبة. لكنها لم تلقَ التشجيع من الشيخ برنابا الذي كان في إسقيط الجثسمانية والذي نصحها أن تفتّش عن زوج لها. تحت تأثيرها، تخلّى الأب الياس عن دراساته الجامعية التي كانت تحمل مشروعاً واعداً، ودخل كلية اللاهوت في لافرا (دير) القديس سرجيوس للثالوث الأقدس. عارض والد أفجانيا زواجها قبل أن ينهي الياس دراساته اللاهوتية خشية وقوعهما في صعوبات مادية. لكنه اقتنع في النهاية بأنهما يستطيعان أن يتوليّا أمورهما، فأعطى موافقته.
أمضى الزوجان الفتيّان شهر عسلهما في منسك زوسيماس واضعَين نفسيهما تحت طاعة الشيخ ألكسي المتوحّد. بعد عودتهما إلى موسكو، استأجرا شقة قرب دير القديس سرجيوس. كانا جد فقيرين لدرجة أن أفجانيا لم يكن بمقدورها إشعال أكثر من ستة قطع من الخشب في المدفأة لتبقى دافئة.
أنهى الأب الياس دراسته الأكاديمية قبل اندلاع الثورة عام 1917. بعد رسامته، خدم لمدة قصيرة في كنيسة تابعة لملجأ الفقراء، ثم نُقل إلى كنيسة القديس نيقولاوس، حيث قام بالخدمة إلى أن تمّ توقيفه عام 1932.
كان الأب الياس كاهناً غيوراً. لم يكن يختصر الخدم الإلهية أبداً. كان يقرأ الاستيشيرات بصوت جهوري وغالباً ما كان يقرأ القوانين. كانت الخورية تأتي إلى الكنيسة يومياً وتقود الجوقة. في ذلك الوقت الحزين، بعد اندلاع الثورة، كانت كنيسة القديس نيقولاوس مصدر نور روحي لمؤمنين عديدين. تتذكّر امرأة من رعية الأب الياس: "آه كانت كنيستنا في تولماخوف تشرق طهارة! لكن الجو كان بارداً لدرجة أن قدميك تتجمّدان".
المجد لله على كل شيء
كانت الماتوشكا متكلة على الله في كل الظروف. صدف مرة في عيد القديس نيقولاوس أن عادت من الكنيسة لتحضّر الطعام إذ كانت العادة في مثل هذا اليوم أن يجتمع أبناء الرعية في بيت الكاهن من أجل وجبة متواضعة. وإذ وضعت يديها في جيوبها اكتشفت أن لا مال لديها، فعادت إلى الكنيسة مسرعةً وسألت باتيوشكا عمّا إذا كان لديه بعضاً منه. بنظرة ملؤها الشعور بالأسف، أعطاها بضعة قطع نقود نحاسية لم تكن لتشتري أي شيء، فعادت إلى بيتها. في طريق عودتها إلى البيت فكّرت: "كم سيكون من الجميل لو حصلتُ على روبلين (عملة روسية)، سأشتري حينذاك قليلاً من البازيلا والزيت وأشياء أخرى وسيكون ذلك كافياً".
كان النهار خريفياً دافئاً، وكان أمام رواق بيتهم بركٌ من مياه الأمطار. في تلك الأيام كان من المستحيل الحصول على حذاء لذا كانت الماتوشكا ترتدي قماشاً ملفوفاً على قدميها. وبلباس القدم هذا، راحت تقفز متنقلّة بين برك الماء. فجأةً، وقع نظرها على إثنين من الروبلات الورقية ملفوفة بعناية، بدتا كقاربين يطفوان على سطح المياه. اصطادتهما وبدأت تسأل المارّة إذا ما فقد أحدهم روبلين، لكن الجميع نفى ذلك. حينها شكرت ماتوشكا الله وهي تردد "اطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرّه وكل شيء آخر يُزاد لكم". وبدأت بتحضير الوجبة البسيطة.
كانت كلمات الكتاب المقدّس، بالنسبة لكثير من الناس، معروفةً وهم يردّدونها آلياً، أمّا بالنسبة لماتوشكا فقد كانت كلمات حقيقية تنبض بالحياة. حتى عندما كانت تعاني من صعوبة، أو عندما كان الناس يستغلّون قلبَها المؤمن، كانت فقط تقول: "المجد لله على كل شيء"، رغم تضاعف الصعوبات والمعاناة.
صعوبات ومعاناة
أُصيب الابن الأصغر بالرشح الذي تحوّل إلى مرض التهاب السحايا (meningitis) في وقت كانت الخورية قد كُسرت يدها. كانت عذابات الطفل غير محتَمَلة حتَى أنه هو نفسه سأل: "أصحيحٌ يا أمي أنني ايضاً أنا شهيد؟" وفي يوم وفاته هنّأها أحد الرهبان قائلاً: "لقد أصبح لديك ابنٌ في الملكوت".
كانت الأوقات صعبة والناس يحتشدون لدى الأب الياس حاملين همومهم وطلباتهم للمساعدة. وكانت الماتوشكا مساعدَه الأمين في كل شيء. فقد كانت ترتل كل يوم في الكنيسة. وكانا بطريقة ما، قادرَين على المحافظة على جمال الخدَم الكنسية وورعتها.
التوقيف والاستشهاد
سنة 1932، استُدعي باتيوشكا الياس من قبَل البوليس السري الذي وعده بعدم المساس به إذا ترك الكهنوت. على مثال القديسة ناتاليا، فقد شجَّعت الخورية زوجَها في جهاده ليكون معترفاً. تم توقيف الأب الياس. قضت الخورية تلك الليلة بالصلاة والدموع. حوالي الصباح استسلمت لغفوة قصيرة فظهرت لها والدة الإله قائلة: "لا تخافي. لن يفعلوا شيئاً بزوجك الكاهن في السجن. سوف أشفع به".
بعد توقيف الباتيوشكا حلّت مساوئ جديدة بالخورية. فقد طُردَت هي وأبناؤها من الشقة، وتشرّدوا لبعض الوقت، إلى أن استقبلتهم إحدى العائلات. كما أن الأولاد طُردوا من المدرسة وسُرقت مكتبتهم الكبيرة. وكانت الخسارة الأكبر وفاة الابنة الوحيدة ماشنكا التي لم تستطع، وهي دون الخامسة من العمر، أن تقاوم الجوع والبرد، فتوفت متأثرة بمرض بسيط يصيب الأطفال. ومع كل هذا كانت ماتوشكا تتشدّد بتردادها مع القديس يوحنا الذهبي الفم "المجد لله على كل شيء".
بعد سنتين، استطاعت الخورية من زيارة الأب الياس الذي كان قد نُفي إلى قرية شمالية معزولة. جلبت له الكتاب المقدس لكنه صودِر في الحال. لكنها استطاعت اعطاءه بعض الماء المقدّس.
أخبرها الأب الياس كل ما حدث خلال هاتين السنتين وكم أنه كان صعب التخيّل وكيف اقتيد من زنزانته الوسخة في السجن الذي كان يغص بالسجناء، إلى البلدة الشمالية فوق الثلج المتجمّد. ومع كل خطوة كانت طبقة الجليد تتكسّر ويغوص السجناء في الثلج حتى الخصر. لم يكن لديهم ما يأكلونه أو يشربونه طوال النهار. وقد أُجبِروا على تمضية الليلة في كوخ حيث وقع الرجال المنهَكون على الأرض مستغرقين في النوم، لكنه هو (الأب الياس) لم يستطع النوم. من عمق الليل خرجت تنهيدة من قلبه: "إلهي، لماذا تركتني؟ لقد خدمتك بأمانة، وأعطيت كل حياتي لك..." فجأةً، لامس روح ذاك المعذّب افتقادٌ إلهي مثل النار مرسِلاً تعزية غير أرضية، وأضاء نور الإيمان قلبه سرياً وبدأ حب المسيح بالاشتعال بطريقة لا يُنطَق بها. ومن تلك الليلة لم يعد قادراً على أن يحيا حياة عاديّة. عند وداعهما لبعضهما، أخبر باتيوشكا الياس الماتوشكا: "هنا بدأت أفهم أنه لا يوجد ما هو أفضل أو أروع من المسيح، ولا ما يحل محلَه. أنا مستعد للموت من أجله". عند عودتها إلى المنزل، وجدت الخورية تلغرافاً في انتظارها. لقد حدث حريق في مخيم السجن وقد قضى الأب الياس احتراقاً مع أحد عشر رجلاً آخرين. كم أن اسم الياس الذي يعني "الملتهب" مناسب لهذا الكاهن.
بعد استشهاد الأب الياس
لم تكن بقية حياة الخورية سهلة. فعند اندلاع الحرب العالمية الثانية بدأت المصائب تتراكم فوق كاهلها. فقد أُوقِف أحد أبنائها وآخران أُرسِلا إلى الخطوط الأمامية حيث مات الأكبر بينهما. ومع كل هذا بقيت دائماً الماتوشكا الهادئة الملقية رجاءها على الرب.
مرت السنوات وماتوشكا تعيش العيشة نفسها. كان هناك دائماً أناس حولها لأنها، بعد موت زوجها، أخذت على عاتقها إرشاد أبنائه الروحيين، بناءً على طلبه. وقد أيّدها الله في هذه المهمة بإعطائها موهبة التمييز.
عاشت الخورية أفجانيا حياة طويلة وصعبة ومميزة. لم تكن تتكلّم عالياً ولم تعلّم أحداً، لكن تصرّف هذه العجوز الهادئة المتواضعة كان أفضل درس في التقوى المسيحية لأولئك الذين كانوا يودون، في ذلك الزمن الرديء، أن يحيوا بحسب المسيح. تماماً، كما أن القديسة ناتاليا عاشت أكثر من زوجها القديس أدريانوس الشهيد ثم ماتت بسلام وحُسبَت شهيدة معه، كذلك الخورية أفجانيا هي أيضاً شهيدة مع زوجها الأب الياس.
أيها الشهيد الجديد في الكهنة الأب الياس ويا ماتوشكا أفجانيا تشفعا إلى الرب من أجلنا.